الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا} قال الفرّاء: أي: نفس مثقلة، قال: وهذا يقع للمذكر، والمؤنث.قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانًا إلى حملها، وهو: ذنوبها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ} أي: من حملها {شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي: ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئًا.ومعنى الآية: وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسًا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوّة من تلك الذنوب شيئًا، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها، وبين الداعية لها؟ وقرىء: {ذو قربى} على أن كان تامة، كقوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280].وجملة {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، ومعنى {يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب}: أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه، وهو غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس.قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب} [يس: 11].ومعنى {وَأَقَامُواْ الصلاة}: أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم.{وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} التزكي: التطهر من أدناس الشرك، والفواحش، والمعنى: أن من تطهر بترك المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختصّ به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلاّ عليه لا على غيره.قرأ الجمهور: {ومن تزكى فإنما يتزكى} وقرأ أبو عمرو: {فإنما يزكى} بإدغام التاء في الزاي، وقرأ ابن مسعود، وطلحة: {ومن أزكى فإنما يزكى}.{وإلى الله المصير} لا إلى غيره، ذكر سبحانه أوّلًا: أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانيًا: أن المذنب إن دعا غيره، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثًا: أن ثواب الطاعة مختصّ بفاعلها ليس لغيره منه شيء.ثم ضرب مثلًا للمؤمن، والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأعمى} أي: المسلوب حاسة البصر {والبصير} الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن بالبصير {وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} أي: ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحقّ بالنور.قال الأخفش: و لا في قوله: {ولا النور}، {ولا الحرور} زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور، ولا الظلّ والحرور، والحرور شدّة حرّ الشمس.قال الأخفش: والحرور لا يكون إلاّ مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل.وقيل: عكسه.وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة.وقال الفراء: السموم لا يكون إلاّ بالنهار، والحرور يكون فيهما.قال النحاس: وهذا أصح.وقال قطرب: الحرور الحرّ، والظلّ البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظلّ الذي لا حرّ فيه، ولا أذى، والحرّ الذي يؤذي.قيل: أراد الثواب والعقاب، وسمي الحرّ حرورًا مبالغة في شدّة الحرّ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى.وقال الكلبي: أراد بالظلّ الجنة، وبالحرور النار.وقال عطاء: يعني: ظل الليل، وشمس النهار.قيل: وإنما جمع الظلمات، وأفرد النور لتعدّد فنون الباطل، واتحاد الحقّ.ثم ذكر سبحانه تمثيلًا آخر للمؤمن، والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات}، فشبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات.وقيل: أراد تمثيل العلماء، والجهلة.وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال.قال قتادة: هذه كلها أمثال، أي: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفقهم لطاعته {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور} يعني: الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي: كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قلبه، قرأ الجمهور بتنوين: {مسمع} وقطعه عن الإضافة.وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي، وعمرو بن ميمون بإضافته {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي: ما أنت إلاّ رسول منذر ليس عليك إلاّ الإنذار، والتبليغ، والهدى، والضلالة بيد الله عزّ وجلّ.{إِنَّا أرسلناك بالحق} يجوز: أن يكون {بالحقّ} في محل نصب على الحال من الفاعل، أي: محقين، أو من المفعول، أي: محقًا، أو نعت لمصدر محذوف، أي: إرسالًا ملتبسًا بالحقّ، أو هو متعلق ب {بشيرًا}، أي: بشيرًا بالوعد الحقّ، ونذيرًا بالوعد الحقّ، والأولى: أن يكون نعتًا للمصدر المحذوف، ويكون معنى بشيرًا: بشيرًا لأهل الطاعة، ونذيرًا لأهل المعصية {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي: ما من أمة من الأمم الماضية إلاّ مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، واقتصر على ذكر النذير دون البشير، لأنه ألصق بالمقام.ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعزّاه، فقال: {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبياءهم {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي: بالمعجزات الواضحة، والدلالات الظاهرة {وبالزبر} أي: الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم {وبالكتاب المنير} كالتوراة، والإنجيل، قيل: الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع، وأحكام، {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة، ويشعر بعلة الأخذ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكيف كان نكيري عليهم، وعقوبتي لهم، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في: {نكير} وصلًا ولا وقفًا، وقد مضى بيان معنى هذا قريبًا.وقد أخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «ألا لا يجني جانٍ إلاّ على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده».وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: أي، وربّ الكعبة، قال: أما أنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء} قال: يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا. اهـ.
{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} أي وما من أمةٍ ممن كانوا من قبلك إلاَّ بعثنا فيهم نذيرًا، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافةً بالحقِّ.{بَشِيرًا وَنَذِيرًا}: تضمنت الآية بيانَ أنه لم يُخْلِ زمانًا ولا قومًا مِنْ شَرْعٍ. وفي وقته صلى الله عليه وسلم أَفرده بأَنْ أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له.{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)} أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سُنّتُهم مع كلِّ نبىٍّ؛ وأن أَصَرُّوا على سُنَّتِهم في الغيِّ فلن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبدِيلًا في الانتقام والخزي. اهـ.
ولما ثبت بهذا السياق أنه سبحانه فاعل هذه الأشياء المتضادة، علل ذلك ليفيد أن قدرته على كل ما يريد كقدرته عليه بقوله على سبيل التأكيد تنبيهًا على أنه سبحانه لا يعسر عليه شيء وأنه أهل لأن يخشى ولذلك أظهر الاسم الأعظم: {إن الله} أي المحيط بالجلال والإكرام {عزيز} أي غالب على جميع أمره.ولما كان هذا مرهبًا من سطوته موجبًا لخشيته لإفهامه أنه يمنع الذين لا يخشون من رحمته، رغبهم بقوله: {غفور} في أنه يمحو ذنوب من يريد منهم فيقبل بقلبه إليه وهو أيضًا من معاني العزة. اهـ.
|